قلق
الامواج
في قصص
محمد الكريم
بقلم
/عبد الحكيم أمين
لعل المدخل الأكثر فعالية والمتلازمة التي كثيراً ما
نتلمسها في قصص محمد الكريم هي الصورة، فهي تلامس الواقع الإنساني وتتخطى
الاختلافات اللغوية والحواجز الجغرافية ، فهي تعجل ديناميكية الحدث وتكتنز لحظات
معبرة وتجليات شفافة وفتوحات أخاذة في أطروحة سبر الوعي الإنساني وملامسته بفعالية
وطراوة . ففي السطر الثالث من قصة (( أبي يركض وراء قطيع الأحلام )) تتهادى صورة
تلخص الحدث كله وتكون معادلاً موضوعياً لقصته كلها ... (( أبي يهرب من لوحته
المعلقة على جدار صالة الجلوس في عتمة الليل . يركض وراء القطيع .))هنا تتجسد
بانوراما جميلة : الزمن ليلا ، الظلام يعم المكان ، صورة توحي بالخوف والغموض ...
ثمة لوحة معلقة على الجدار ... ورجل يركض وراء القطيع ويترك القاص لمخيلة القارئ
ملء التفاصيل : ما هو كنه القطيع في لوحة معلقة على الجدار ؟ .. وفي لحظة تتبدل
المواقف حيث تتناقض الألوان
(( ربما أنا في كابوس ابيض يزورني الصباح بغتة))
وفي قصة (( الراقص في المقبرة)) يظل البطل حائرا ، يترقب ، يغالب الألم
وحالة انعدام الوعي .. متعلقا بالماضي الذي شتت وعيه وأثقل كاهله و شوش
ذاكرته فصار يتماهى مع الموتى في غضبهم
وحنقهم من واقعهم الساكن وغدا المستقبل
بالنسبة إليه قبرا حاضرا ينتظر موته .. ليس هو وحده بل تطلعاته الثقافية ومشاريعه
المستقبلية . إن قصة (( الراقص في المقبرة )) معادل موضوعي لحالة الإحباط والضياع
التي يعيشها الشباب العرب.
ويجسد القاص حالة الحبس الاختياري الذي يعيش بصورة بصرية معبرة ، بل بلوحة فنية ، ملصقات
مخيفة ، هياكل عظمية ، جماجم ، حيوانات وطيور
تلك الصورة التي تمهد لحادث أكثر رعبا:
و هنا يؤشر القاص حالة الموت الجماعي التي تهيمن على مجتمعنا بوفاة صديقه
بشكل غير متوقع وتحذير مجهول بقرب
وفاته بصورة (( إعلان في جريدة )) .
وفي قصة (( نباح كلب)) يلف القاص ويدور حول نفس الثيمة ، ثيمة الضياع
واللامعنى وكأن القاص يعيش نفس أجواء الكتاب الوجوديين في بداية القرن العشرين:
(( ابتلعتني المدينة أتسكع في دروبها الضيقة الملتوية كثعبان ، انبح
...لعابي ما عاد يشفي جراحي العميقة ،كل لعقة اصرخ بعدها آه فيزداد سيل دمي أكثر
... أكثر))
ويعبر القاص عن حالة الغربة و الانعزال والصوت المنفرد الذي يسمعه أحد في قصة (( أنا حمار)) حيث يسير
العالم في اتجاه الذي يريد بينما يبقى البطل كئيبا مستلبا ، يتقمص شخصية حمار
تترقرق الدمعة في عينيه كمدا على رزقه .. انه حمار من نوع خاص يفترق عن الحمير الآخرين
.. ذلك أنه يشعر بالآخرين ويشاركهم همومهم.
وفي قصة (( بدون إزعاج)) يتربع
مسرح القصة ثلاثة أبطال الذبابة والبعوضة والقاص الذي يكون ضحية لسخريتها ، هناك
يقدم لنا القاص مشهدا دراميا عن نفس النغمة التي يرددها القاص بآلات موسيقية
مختلفة: نغمة العجز والعقم وعدم القدرة على المواجهة الجدية، فهو عاجز أمام بعوضة
وذبابة فما باله أمام مطبات الحياة الأخرى ؟
وأزعم أن قصة ((حرز)) المكتوبة بحرفية عالية وباقتصاد بالكلمات يلفت النظر
، حيث أن أي حرف في هذه القصة هو متغير
يمكن الاستغناء عنه في معادلة أدبية معقدة ذات مستويات متعددة واقعية
ورمزية ، تراجيدية و كوميدية تؤرخ بمرارة لحقيقة الموت الأسود الاحتلال الذي غمر
عقول العراقيين وقلوبهم .
العرض القصصي يؤرخ البراءة بأجمل صورة ويعكس العفوية الأخاذة في أداء
الكاتب و لا سيما نهاية القصة الجميلة المعبرة.
وقصة (( كسوف حلقي)) ربما حاول القاص أن يعبر عن حالة الضياع وانعدام الوزن
وتلاشي الإحساس بالزمن كقناع عن مرارة الواقع وعدميته وهو موضوع جدير بالتناول في
فن كالقصة القصيرة لكنه لم يفلح في إحكام بناء هذه القصة وعدم نضج شخوصها وتعثره
في نهايتها .
ومع ذلك فإن الكاتب في اغلب قصصه يستثمر العناصر الثلاثة في القصة القصيرة
: العرض والنمو والعنصر الدرامي استثمارا ناجحا يدل على أن الكاتب يمتلك موهبة
خلاقة سيفصح عنها في قصصه القادمة.
فمن ميزات القصة القصيرة إخراج الحدث المتصوّر الذي يخرج إلى الوجود في إطار
التشابه مع الواقع والتخلي عن حيل الفن الشعبي الذي يعتمد على ارتجالات بالغة
الغرابة ، ويستمر في أداء وظيفتها كفن خالص قصد فيه إشباع القارئ المتجدد الناقد،
وهذا الطرح ينسجم تماما مع أداء محمد الكريم في اغلب قصص المجموعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق