من يوميات مدرس(قصة
قصيرة)
استيقظ أبو ثابر مذعورا بعدما غزت أشعة الشمس غرفة نومه، فرك عينيه حتى
يتبين عقارب الساعة، لكنه وجدها معطلة، ارتدى ما توفر من بين ركام الملابس
المتناثرة، بحث عن محفظته في كل أرجاء المنزل دون أن يجد لها أثرا، هم بإيقاظ
زوجته رميدة علها ترشده إلى مكانها، بيد أنه تذكر مطالبتها إياه عدم إزعاجها
وتركها نائمة، لأنها سهرت البارحة حتى وقت متأخر في مشاهدة مسلسلها المكسيكي
المفضل، ملكت الحيرة كل كيانه، وحوصر بين سندان ذاكرته المترهلة، وبين غضبة زوجته
المضرية إن هو أيقظها، وإذا بصوت داخلي يناديه: لقد تركت محفظتك عند حارس المؤسسة،
وعاهدت نفسك أن يكون هذا ديدنك حتى لا تنوء بحملها، فاستفاق من شروده وهرول نحو
الباب الذي لم ينس أن يوصده بلطف استجابة لأوامر حرمه المصون رميدة، في الطريق سأل
أحد المارة عن توقيت الساعة، فقال له: الثامنة وعشرون دقيقة، حينها تنفس الصعداء،
لم يمر من وقت الحصة إلا ثلثه، ولا يفصلني عن المدرسة إلا خمس دقائق، الثلث يكفي،
بل الثلث كثير لشرح الدرس... حينما وصل إلى المؤسسة وجد الباب موصودا، فتسلق
الحائط وارتمى أرضا، لما دلف إلى القسم وجد التلاميذ منهمكين في اللهو واللعب
والمرح، وصياحهم يملأ الآفاق ، مشهد القسم يبعث على التقزز، الأوراق متناثرة هنا
وهناك، الكتابات الساقطة تملأ كل جدرانه، الأتربة تغطي أرضيته، العناكب معششة في
زواياه الأربعة، النوافذ مكسرة، الباب بدون مزلاج... كلف التلاميذ بإنجاز بعض التمارين المبثوثة في
الكتاب المدرسي ، وتوعدهم بالويل والثبور إن هم تقاعسوا عن تنفيذ أمره ، ولأن
المكان لم يرقه ومزاجه متعكر خرج للتو للالتقاء بالزملاء والزميلات، أشعل سيجارة
واحتسى كأس شاي أعده حارس المؤسسة للجمع، تبادل وإياهم أطراف الحديث حول إكراهات
المهنة والمجهودات الجبارة التي يقومون
بها مقابل الأجرة الزهيدة العجفاء التي يتقاضونها دون أن تسمنهم أو تغنيهم من جوع
، ثمن أحدهم فكرة الإكثار من الإضرابات، وتصيد كل بارقة إضراب مهما كانت الجهة
الصادر عنها قراره: نقابة ـ هيأة ـ تنسيقية ... فأيده الجميع، وأردف أحدهم: المهم
هو أن نأخذ قسطا من الراحة حتى وإن لم يجد جديد على مستوى الأجرة، وقبل أن ينهوا
حديثهم الشجي قرع الجرس مؤذنا بانتهاء الحصة الأولى، فرجع أبو ثابر إلى قسمه آمرا
التلاميذ بالانصراف وإتمام إنجاز التمرين في المنزل، لما حضر تلاميذ أخر كلفهم
بالواجب نفسه الذي كلف به أقرانهم السابقين، وتوجه تلقاء زملائه لإتمام الحديث
الشيق ولتناول وجبة الفطور التي أعدها على شرف الجماعة السيد الحارس، وجبة منوعة
اشتملت على شاي وخبز وطماطم وبيض، رن الجرس فلم يأبه به أحد، وتصرفوا كما لو كانت
آذانهم من طين، استمروا مزدردين الطعام، مستمرئين الحديث... راقب المدير المشهد من
بعيد، مؤثرا التفرج على الوضع، ولما استيأس من انفضاض الجمع جاء يمشي على استحياء
قائلا: قد تزور لجنة نيابية مؤسستنا هذا الصباح، ودون أن يكمل حديثه هرعوا إلى
أقسامهم وقلوبهم وجلة، وتركوه قائما، فتبسم ضاحكا من فعلهم ، لا لجنة ولا هم
يحزنون، كان الأمر مجرد حيلة استقوى بها المدير، لأن القوم استضعفوه، ولم يعودوا
آبهين به وبسلطته المقزمة التي لو وظفها لانقلب سحره عليه، ولانهالت عليه
الاحتجاجات، ولسلمت إليه الرسائل الإدارية المدينة لشخصه، ولوقعت العرائض المنددة
بسوء تدبيره، ولصدرت البيانات الشاجبة لعجرفته وإهماله وتطاوله على رسل العلم
والمعرفة .
لما التحق أبو ثابر بقسمه أمر
التلاميذ أن يجمعوا الأوراق المتناثرة، وأن يمسحوا السبورة التي ملئت كلاما فاحشا،
ودون التاريخ وعنوان الدرس عليها لأول مرة منذ ثلاثة أشهر هي عمر السنة الدراسية ،
سأل أحد التلاميذ عن شجة في رأسه، فأخبره بأنها ناتجة عن ضرب أستاذ إياه بمسطرة
حديدية، شجب أبو ثابر السلوك الأرعن الصادر عن الأستاذ، لما فيه من خرق جسيم لحقوق
الإنسان، موظفا كل عبارات الإدانة لزميله ، وكل مفردات التعاطف مع التلميذ، خاطب
تلاميذه قائلا: أنتم مواطنون من حقكم أن تنعموا بالأمن، وأن تعاملوا المعاملة
اللائقة ، وليس من حق أي كان إيذاءكم ماديا أومعنويا ... فكان هذا فاتح الشهية
لتناسل الحديث حول زملاء العمل، شارك التلاميذ في الموضوع بكل حيوية ونشاط ،
فذاقوا، عفوا، اغترفوا من مأدبة دسمة أتوا فيها على القاصي والداني، أرتعوا بمعية
أستاذهم ـ الذي يحرص على احترام حقوق الإنسان ـ ألسنتهم في صحن أعراض أولئك
المدرسين الذين يتركون ضمائرهم نائمة تغط في نوم عميق، ويأتون إلى المؤسسة كما لو
كانوا خشبا مسندة ... طرقت إحدى الزميلات باب القسم ، فخرج وحياها بحرارة، قالت
له: أبشر، لقد اتصلت هاتفيا بأحد أصدقائي من موظفي النيابة ، وطلبت منه أن يحدد لي
بالضبط ساعة قدوم اللجنة، فأكد لي ألا
لجنة في الأمر، وذكرني بالعهد الذي بيني وبينه وبوفائه له، وإخباره إياي بكل طارئ
أو جديد فور حدوثه، بل قبل حدوثه .
انفرجت أسارير أبي ثابر بعدما
استنتج بأن ما يسمى "اللجنة " من أضغاث أحلام المدير الذي ربما أتته سنة
من النوم في مكتبه، فرأى كابوسها ، وهرع بالخبر وهو لم يزل نائما ، ربما كانت
عيناه مغمضتين حينها ... وهو مستغرق في التفكير بادرت مخاطبته إلى فتح ملف جديد
عنوانه زوجها العنيد المشاكس الذي يقضي نهاره صائما عن كل فعل أو قول حسن، ويبيت
ليله قائما في معاقرة الخمرة ومنادمة الخلان منغصين نومها بكر كراتهم وطخطخاتهم...
أخذت هذه الكلمات كل مأخذ من أبي ثابر، تخيل المتكلمة زوجته، والمشتكى منه هو
نفسه، هذه هي تصرفاته، كما لو وقع الحافر على موضع الحافر، مع فارق المكان، هو
يعربد خارج البيت لأن زوجته تحول بينه وبين استهتاره فيه، أما زوج زميلته فقد أوتي
من القوة ما مكنه من لزوم مالا يلزم في بيته غير آبه لعويلها وصراخها... انشغل
بتفكيك الكلام، ولم يعد يسمع ما تتفوه به مخاطبته، كأن في أذنيه وقر، وعلى قلبه
غشاوة، انتبهت السيدة للأمر فتوقفت متأملة في ملامح وجهه الممتقع وعينيه الشاخص
بصرهما وفمه الفاغر... سألته عن سر وجومه، فابتلع ريقه وأجاب بتأتأة غير معهودة:
لقد آلمني وضعك البئيس، حقيقة إنه وحش لا يستحقك أيتها الرائعة، لم أكن أتخيل وجود
آدمي بهذه النذالة والصفاقة... اهتزت الزميلة لوقع الكلمات اهتزازا زادها إحساسا
بالظلم والغبن، فانهمرت العبرات من مقلتيها رقراقة مسدرة، تأمل وجنتيها اللتين
احمرتا، ودموعها التي جعلتها أشعة الشمس لآلئ تسر ناظرها الماثل أمامها، وعينيها
الحوراوين اللتين تبدوان له كما لو كانتا نرجسا، فتمنى لو يراها دائما وأبدا
باكية، وقفزت إلى ذهنه أبيات شعرية لشاعر يتحدث عن مشهد مماثل:
يا قمرا أبصرت في
مأتم............ يندب شجوا بين أتراب
يبكي فيذري الدر من
نرجس......... ويلطم الورد بعناب
لا زال الفقد دأب أحبابه...............ولا
زلت أبصره دأبي
تركها وقتا تبكي وتنتحب، واكتفى بالنظر إليها نظرات ذات علق... لم يفض هذا
المشهد الجنائزي الرومانسي في الآن نفسه إلا حينما رن الجرس مؤذنا بانتهاء الحصة
الثانية ، انصرف كل منهما ليهش على تلاميذه كي يغادروا حجرة الدرس،وبمجرد ما أطل
على تلاميذه تعالى صياحهم بالشكوى من بعضهم البعض، فقال أحدهم: أستاذ هذا
ضربني، ورد الآخر: هو الذي سب أمي، وقال ثالث: هذا مزق دفاتري...، ودون أن ينبس
ببنت شفة صرف الجميع، ثم جلس على كرسيه متأملا في هذا العبء، وفي هذا الجيل من
التلاميذ الذين فقدوا قيم الانضباط والتعاون والاجتهاد، وصار إحداث الضوضاء شغلهم
الشاغل، مرر بصره على الكلمات المدونة على السبورة، التي تسبه وتقدح فيه، فتنهد
متسائلا عن سبب كل هذه الكراهية لشخصه، وهو الذي لا يتوانى في منحهم أعلى النقط ،
ولا يسجل غيابهم، ولا يطالبهم بمراجعة دروسهم ، ويبسط لهم أسئلة المراقبة المستمرة
حد السماجة والابتذال،ويتجنب الطقوس العسكرية في حراسته إياهم في الامتحانات،
ويترك لهم المجال للدردشة والحديث وتبادل النكت والاستماع إلى الموسيقى لمن أراد،
ومضغ العلك... لكن دون جدوى، كان أولى بهم رد الجميل بجميل أحسن منه، لا تقديم
وصفات السب المتنوعة، يالهم من أوغاد!.
وهو مستغرق في تفكيره، هاتفه
صديق له طالبا منه الالتحاق بوقفة احتجاجية سينظمها حزبه بعد نصف ساعة ضد الفساد
والمفسدين، فوافق في الحين لأن الواجب النضالي فوق كل اعتبار، نادى على أحد
التلاميذ وطلب منه أن يخبر زملاءه بأنه أعفاهم من الحصة، وأبلغه وصيته إليهم بعدم
التجمهر أمام القسم حتى لا ينتبه الإداريون إلى غيابه، ومادام اليوم يوم جمعة، فلم
ينس أن يذكره ليذكر بدوره زملاءه بما سبق أن أخبرهم به في بداية الأسبوع من أنه
سيكون يوم السبت في اجتماع مهم ، ويوم الاثنين مريضا، على أن يلتقي بهم يوم
الثلاثاء ليكون وإياهم على موعد مع فرض من فروض المراقبة المستمرة، تسلل من الباب
الخلفي للمؤسسة، وقبل أن يلتحق بالجموع ذهب إلى الحانة وعب زجاجة نبيذ، أن تناضل
وأنت مخمور تلك متعة لا حدود لها، قال مخاطبا زملاءه الذين وجدهم هناك، ثم أردف
مترنما ببيتين شعريين :
أدر الكأس
ليمين..... ولا تدرها ليسار
فإن قالوا
حرام فقل حرام....... ولكن اللذائذ في الحرام
فرد عليه أحدهم: تلذذ بحرامك، وأضف إليه حرام ثمنه، وزد في منسوب نشوتك،
وأبشرك أننا لن نظمأ بعد اليوم طيلة شهر كامل، سيتكفل الحاج سلام بدفع أجر نضالنا
خمرا خلال هذه المدة... غادرا لجميع الحانة والتحقوا بمكان الوقفة الاحتجاجية،
فحملوا اللافتات، وصدحت حناجرهم بشعارات تدعو إلى محاربة الفساد والمفسدين، في
الذي جلس فيه الحاج سلام على مقعده في المقهى المطل على الساحة يراقب الوضع برضا
وارتياح، فالوقفة التي (مولها) تسير وفق ما يرام، لقد تجمهر الناس بأعداد وفيرة،
وسمعوا عبارات القدح والتشهير بخصومه في الانتخابات القادمة، ولم يجر على ألسنتهم
اسمه... سيضاعف (الأجر) في الوقفات القادمة ليتحول السكوت إلى ثناء، أو على الأقل
ليستمروا في تجاهله، وليقوى سعارهم ويتأجج على الخصوم... لما انفض الجمع توجه
أبوثابروصحبه إلى المقهى ، فألقوا التحية على الحاج سلام الذي ردها بأحسن منها،
وشكرهم على حسن صنيعهم، وعلى غيرتهم وحرقتهم على الوطن، طالبا منهم بذل المزيد في
سبيل محاربة الفساد والمفسدين، ثم دس في جيب كل واحد منهم أوراقا نقدية من فئة
العملة الصعبة وانصرف .
مكثت الجماعة بعض الوقت،ثم ذهب كل واحد منهم إلى حال سبيله، كما هو شأن أبي
ثابر، الذي ركب سيارته قاصدا إحدى المدارس الخصوصية لأخذ ابنيه مروان ورمة الذين
يحبهما حبا جما، ويحرص كل يوم على تفقد أحوالهما وسؤالهما عن سير دراستهما، وعن
العقبات التي تعترضهما، ليعمل بكل ما أوتي من جهد على تذليلها... إن رأى من مدرس
تقصيرا هرع إلى إدارة المؤسسة باكيا شاكيا مهددا بسحبهما إن لم يرعو عن غيه، وإن
لمس فيهما عجزا عن مسايرة مادة معينة أحضر إلى البيت في الحين من يجبر ضررهما،
مقدما إليه المبلغ الذي يريد دون مساومة... سجلهما بداية في المؤسسة التي يشتغل
فيها، حتى يكونا تحت حراسته النظرية في كل وقت وحين ، لكن لما رأى الزملاء منشغلين
عنهما بالحديث واحتساء الشاي، قرر أن يرحلهما إلى مدرسة خصوصية... لما رن الجرس أتاه
ابناه ضاحكين مسرورين، فاستقبلهما بالقبلات والكلمات الحلوة الرنانة المعبرة عن
عاطفة أبوية صادقة ، عندما عاد إلى البيت تظاهر أمام زوجته رميدة بالعياء شاكيا
التعب والنصب جراء المجهود الكبير الذي يبذله في تنوير تلاميذه، وأحجم عن ذكر
خرجته النضالية وما رافقها من توابع وزوابع، فتأثرت لحاله، وشكرته على إخلاصه في
عمله، وعلى تضحياته من أجل أبناء الوطن، داعية الله عز وجل أن يمن على ابنيها
بمدرسين من طينته... ، على ابنيها ستجني براقش، اللهم لا تجب دعاءها، رد أبو ثابر
متمتما دون أن تنتبه إليه زوجته ... لما تناول غذاءه غط في نوم عميق استمر إلى
مابعد غروب الشمس، آثرت زوجته ألا توقظه قبل هذا الوقت إشفاقا على حاله وتعبه في
عمله ... في اليوم الموعود، يوم الثلاثاء التحق أبو ثابر بالمؤسسة بحيوية ونشاط
كبيرين، وزع أوراق الفرض على التلاميذ مبيحا لهم استعمال "الوثائق"
و"المستندات" التي تواضع معهم على توظيفها، وسعى لها سعيها من خلال
إشرافه بنفسه على نسخها في مختلف الأحجام والأشكال حينما حجوا إلى مكتبته أفواجا
خلال الأيام الثلاثة الخوالي التي وصل ليلها بنهارها من أجل هذا العمل النبيل...
التفت أحد التلاميذ إلى زميله قائلا: أسئلة هذا الامتحان من قبيل" السماء
فوقنا"، فرد عليه : سماء أستاذنا ممطرة هذا اليوم، تدخل ثالث معروف بظرفه في
النقاش قائلا: مطر أستاذنا اصطناعي، لقد بخخنا غيومه بأملاح ومواد كيماوية، فنزل
مطره منهمرا، ضحك من سمع الطرفة وضحك أبو ثابر لضحكهم دون أن يعرف ما الذي أضحكهم،
رن الجرس فسلم التلاميذ أوراقهم ، وحرص كل واحد منهم على تحيته بحرارة وشكره على
دوره التربوي الرائع الذي أداه بإتقان كبير، وشكرهم هو بدوره على الاستعداد
والتهيؤ للامتحان، الذي بدا جليا في حجم "الوثائق"
و"المستندات" التي نسخوها، حقا لقد رضي عنهم ورضوا عنه، ذلك ثمرة مجهود
بذله الطرفان بكل تفان وتجرد وإنكار للذات .
ــ
نورالدين الطويليع.
كل تشابه في الوقائع والأحداث هو من قبيل الصدفة.
ردحذف