ــ البقاء للصراصير.
(قصة
قصيرة بقلم نورالدين الطويليع)
دخل صرصار خائفا وجلا مذعورا إلى حجرة الصراصير وعيناه تفيض من الدمع،
وأطلق صيحة فزعت لها كل الصراصير، فهبت من كل الأنحاء لمعرفة مصدرها وبواعث
صاحبها، وأقبل بعضهم على بعض يسائلونه عن مصدر روعه الذي قذف في قلوبهم الرعب،
فأجابهم ودمع العين يسبقه: إن ربة البيت تأتمر بنا لتقتلنا، وقد سمعتها تشكو بثها
وحزنها وهوانها علينا إلى صديقاتها وقريباتها وجاراتها، فأشارت عليها إحداهن بمبيد
لا يبقي ولا يذر، واقترحت عليها أخرى أن تعزل خادمتنا العزيزة بعدما أفضت إليهن
بعدم جديتها في محاربتنا، بل بتآمرها معنا ضدها، على أن تأتيها غدا بخادمة أخرى
زعمت أنها تكرهنا معشر الصراصير كراهية عمياء وتمجنا مجا، وأنها مهووسة بمحاربتنا،
والقضاء علينا يشعرها بالانتشاء، فشكرتهما وقبلت اقتراحهما بقبول حسن.
قال أحدهم: أضغاث أحلام هيهات هيهات أن تصل إلينا أيدي العابثين.
ورد آخر: لن نبرح هذا المكان الذي ولد فيه كثير
منا، واستوطنه كبارنا سنين طوالا، الموت أحب إلينا من الحياة في مكان آخر غيره....
وقبل أن يتمم كلامه، قال ثالث: بحكم
أنني ذقت جحيم العيش في مجاري المياه العادمة وقنوات الصرف الصحي قبل أن آتي إلى
هنا، أقترح عليكم أن نقوم بعملية انتحار
جماعي، لأن هذا أهون علينا بكثير من أن نخرج مذؤومين مدحورين إلى حيث كنا.
ظل كبيرهم يراقب ردود الأفعال والتدخلات، فلما سكت الجميع أدلى بدلوه
قائلا:لنكن صرحاء، كثير منكم استعدى علينا هذه السيدة بتصرفاته الطائشة، هل
تذكرون اليوم الذي استضافت فيه أناسا من علية القوم وأكابرهم بغاية التباهي بجمال منزلها
وأناقة أثاثها ولذة طعامها، وبمجرد ما وضعت أطباق الحلويات والمأكولات نفرتم تجاهها
خفافا وثقالا، فصرخ من صرخ، وصاح من صاح... وبهتت السيدة ووجمت دون أن تستطيع
حراكا كأن على رأسها الطير، ثم سقطت مغشيا عليها حينما نهرتها إحدى الضيفات التي
لاعهد لها برؤيتنا قائلة: "ويل لك، ألهذا جمعتنا، هذه قلة لباقة منك، كيف
سولت لك نفسك أن تجمعينا في وقت واحد ومكان واحد مع هؤلاء الضيوف الثقال الذين لا
يحسنون التصرف، كان أولى بك أن تفرقي بيننا في المجلس والمأكل والمشرب"، ثم
انصرفت وتبعها كل الضيوف تاركين إياها ملقاة على الأرض تصارع إغماءتها.
وكان لهذه الواقعة تأثير سلبي على وضع السيدة الاعتباري، وقد ظهرت تجلياته
حينما وضعت ربة البيت على رأس قائمة
النساء اللواتي تفتقدن إلى اللياقة واللباقة، وهي التي كانت تمني القلب بألا يكون
لاسمها وجود في هذه اللائحة السوداء.
ولعلكم تتذكرون الثوب الفاخر الذي استعارته السيدة من أحد المحلات الراقية
لأجل حضور حفل زفاف إحدى قريباتها، فإذا بجحافلكم تنقض عليه في دولابها وتملؤه
ثقوبا، فلم تملك حينما وقع بصرها عليه إلا أن تنفجر باكية نائحة، واضطرت مرغمة إلى
أن تكون مع الخوالف عن الزفاف، وأن تدفع ثمنا باهظا لصاحب المحل، بعدما أقبرته و
تظاهرت بأن لصوصا اقتحموا بيتها وأخذوه منها عنوة، وكانت المصيبة مزدوجة حينما وضع
بيتها على قائمة البيوت التي تفتقد إلى الأمن والأمان.
وتتذكرون كذلك يوم ملأتم البيت ضجيجا بأصواتكم الناشزة في حضرة ضيوف
السيدة، التي امتقع وجهها واغرورقت عيناها،وصكت وجهها، ونأمت بصوتها الخافت إلى
خادمتها بفعل أي شيء من شأنه توقيف ضوضائكم، فما زدتم إلا عزما وتصميما على
الاستمرار في عنادكم، ليرحل الضيوف على إيقاع أنغامكم غير المرحب بها، ولا أظنكم
نسيتم تقرير الهيئة العليا للفنون الذي اتهم السيدة بالافتقاد إلى الذوق الفني،
معللا ذلك بفشلها في اختيار الفرقة الموسيقية اللائقة بمقام ضيوفها الراقي.
وقبل أن ينتقل السيد كبير الصراصير إلى ذكر واقعة جديدة من طرائف زملائه
وعجائبهم وغرائبهم، دخلت السيدة بصحبة امرأة، ونذر الشر تتطاير من عينيها، نادت
على الخادمة بصوت فيه من الحدة ما لم يطرق سمع أحد من ذي قبل، فأشار إلى الجمع
بالصمت وإصاخة السمع ومتابعة الحوار.
حضرت الخادمة ملبية، منحنية، مظهرة كل فروض الطاعة والولاء كعادتها،
فنهرتها قائلة: لقد استأ جرتك سنين عددا على أمل أن تكوني قوية أمينة، لكن قوتك
هذه خارت وانهارت أمام الصراصير التي تمأسدت ومرغت سمعتي في التراب حتى صرت بين
الناس كالهشيم الذي تذروه الرياح.
وأمانتك التي عولت عليها تبخرت حينما خنت العهد الذي قطعته على نفسك في أول
يوم وطئت فيه قدمك بيتي، حيث وعدتني بأن تقتليهم تقتيلا، وألا تتركي صغيرا أو
كبيرا منهم إلا أرسلته إلى مثواه الأخير، فإذا بك تتحولين إلى حضن دافئ لهم،
وتصبحي وإياهم عسلا على عسل.
سيدتي، بكل صراحة أقول لك لا طاقة لي بالصراصير، ومحاربتهم آخر ما يمكن أن
أفكر فيه.
إذن اجمعي حقائبك،أنت من الآن مطرودة، إنسانة بهذه الانهزامية لا تستحق أن
تدير دواليب بيتي، من باب الإنسانية سأسمح لك بالمبيت هنا، وفي صباح الغد عليك أن
تغادري باكرا.
طأطأت الخادمة رأسها ولاذت بالصمت، لم
ترد على سيدتها ولو بكلمة واحدة، بدت كما لو كانت متهما أمام قاض حكم عليه
بالإعدام، ينتظر لحظة تنفيذ الحكم، شردت بفكرها بعيدا متأملة واقعها الجديد، وما
يمكن أن تواجهه من مشاكل إن هي غادرت البيت الذي نعمت فيه بالراحة والطمأنينة...
صاحت السيدة فيها من جديد: "هذه
المرأة هي خادمتي منذ الآن، ستريك في هذه الليلة قبل أن ترحلي الصورة الحقيقية
للخادمة الحازمة"، ثم خاطبت خادمتها الجديدة قائلة:" اسمعي خادمتي العزيزة،
هذا المبيد جلبته لمساعدتك، سيقضي على كل الصراصير، لن أبيت الليلة في المنزل،
لأنني سأكون في ضيافة عمتي، سأرجع في صباح الغد، أريد أن أرى النتائج الملموسة
لعملك، اجمعي لي "الجثث" حتى أنتشي برؤيتها، والآن مع السلامة".
حينما انصرفت السيدة وأغلقت الباب وراءها،
تهيأت الخادمة الجديدة للعمل بحماس ظاهر، واضعة نصب عينيها رضا ولية أمرها، وقد
همت باستخدام المبيد لولا أن صاحت بها زميلتها قائلة: قبل أن تنفذي ما أمرت به،
اسمحي لي أن أضعك أمام الحقيقة التي حجبتها عنك براءتك ، هذه السيدة ستنتشي بقتل
الصراصير وبقتلنا نحن كذلك، فالمبيد الذي سلمته لك خطير جدا، لا يبقي ولا يذر،
قاتل للبشر والشجر....، ولذلك فرت هاربة عن البيت لأنها تحب الحياة لنفسها والموت
للآخرين.
ردت الخادمة الجديدة قائلة: لكنها لا تعرفني، ولا أظن أن لها مصلحة في
قتلي.
ــ تريدك أن تكوني القاتلة المقتولة، ستبيدين
الصراصير، وإبادتك إياها ستتوج بقتلي وقتلك لنفسك، وسماحها لي بالمبيت ليس إنسانية
ولا هم يحزنون، وإنما هو مخططها الخبيث للتخلص مني ، الذي لن يحصل إلا بك، ولن
تكوني بمعزل عن الموت، بل ستكونين السابقة، لو كانت طويتها سليمة لمكثت بالبيت،
وأشرفت بنفسها على إدارة العمل الذي كلفتك بإنجازه.
ـــ لنفترض أنني طبقت نصيحتك ، وامتنعت
عن استعمال المبيد، ماذا سيكون رد السيدة غدا؟ ، سترمي بي في الشارع كما فعلت معك
إذا لم تجد جثث الصراصير التي طلبت مني جمعها.
ــ الأمر سهل للغاية، اجمعي الصراصير النافقة
التي وافتها المنية، أجهزي كذلك على المريضة منها، اشتري من محل ألعاب الأطفال
القريب منا صراصير بلاستيكية لتكثري بها سواد الأموات، واعلمي أنها جبانة رعديدة
ستكتفي بإلقاء نظرة على الكيس البلاستيكي من بعيد، دون أن تجرؤ على الاقتراب منه،
فبالأحرى تفحصه.
ـــ حسنا، وهذا المبيد ماذا سأعمل به؟
ــ أعطنيه، سوف أقبره في مكان لا تصل
إليه أعين الفضوليين.
ــ شكرا زميلتي على نصائحك الغالية،
حقا حياتنا ثمينة، ولا يجوز لنا أن نتهور ونجازف بها في حرب لا ناقة لنا فيها ولا
جمل.
ــ إذن لنطبق مخططنا الآن، ولنقل
لعظماء الصراصير عفا الله عما سلف، عساها أن تغير من أسلوبها، فتجعل كل تحركاتها
بليل، وتقضي مصالحها كما تريد بعيدا عن الاستفزاز.
ــ لقد قدمت إلي خدمة جليلة، أشعر أنني
ولدت من جديد، ووجدت أختا لم تلد لي أمي لها نظيرا، فشكرا لك مرة أخرى.
ــ لم أقم إلا بالواجب....فقط أرجو منك
أن تذكريني عند السيدة بخير، وأن تثني على دوري الحاسم في مساعدتك على تنفيذ
خطتها، لن أغادر البيت حتى تأتي، وأنا متأكدة أنها ستحتفظ بي إلى جانبك إذا نفذت
طلبي، فهي متقلبة المزاج عاطفية جدا،
ــ لك ما أردت أختي، أنا بدوري سأكون
سعيدة ببقائك إلى جانبي.
في صباح اليوم الموالي رجعت السيدة واضعة قناعا واقيا على وجهها، فتحت
الباب ، ونادت على الخادمة، فلما أقبلت طلبت منها أن تريها الجثث التي أمرتها
بجمعها عن بعد، حينما فعلت أثنت عليها ووعدتها بمكافآت وهدايا وعلاوات، ثم همت
بالانصراف متعللة بقضاء بعض الحوائج، لولا أن فاجأتها بخبر بقاء الخادمة السابقة
بالبيت... وقبل أن تبذر منها أية كلمة بادرتها بالقول: سيدتي لقد ساعدتني كثيرا
ودلتني على جحور الصراصير، وبينت لي كيفية محاصرتهم، ولولاها لما نجحت في هذه
المهمة.
تهللت أسارير السيدة، ونادت على خادمتها السابقة
فشكرت لها حسن صنيعها، وطلبت منها البقاء في المنزل، ووعدتها بما وعدت به زميلتها.
سيد الحكي الأستاذ نورالدين الطويليع
ردحذفلنصك نكهة خاصة و عمق غائر
و إنك لمبدع بحق
محبتي
شهادتك وسام من مبدع أعتز بمروره، لك منا ألف تحية على مجهوداتك في سبيل رقي الأدب وخدمة الأدباء، دمت مبدعا
ردحذفأخي العزيز عبدالعالي أواب