الجمعة، 26 أكتوبر 2012

العشرة المبشرون بالجنة. ــ بقلم نورالدين الطويليع.


                          ــ العشرة المبشرون بالجنة.
                                                                    قصة قصيرة بقلم نورالدين الطويليع.

حضر ابن بروقة خطبة الجمعة مبكرا كعادته، اختار لها كعنوان " فضل القيام بالواجب، وعاقبة الإخلال به" متغييا بذلك تحذير موظفي الدولة وتنبيههم إلى بعض السلوكيات اللاوطنية التي صارت ميسم كثير منهم.
قبيل رفع الآذان صعد المنبر ببرنوسه السحل، وألقى التحية على الجموع الغفيرة التي حجت للاستماع إلى خطبته والصلاة خلفه، وقبل أن يتناول الورقة مرر بصره على الحضور، فأخذته قشعريرة من أخمص قدميه إلى أعلى شعرة في رأسه، وأسقط في يده، وبدا واضح الارتباك...يا إلهي، هذا يوم عسير، على نفسي ومستقبلي لن يكون يسيرا، إن الأسماء العشرة الوازنة في المدينة حاضرة في الصف الأول، وخطابي سيعتبر همزا ولمزا في حقها، ياليت أمي لم تلدني، ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، أنا الآن فوق صراط تحته وديان من النيران، أية كلمة سأتلفظ بها في ورقتي هذه ستسقطني في الهاوية....
هؤلاء أولياء نعمتي، بوؤوني الدرجات العلا حتى صرت فقيه المدينة الذي لا يستفتى غيره، إن أنا فعلت سأصنف كافرا بالنعمة والفضل، وستنقلب حياتي رأسا على عقب لا محالة.
ناداه صوت من داخله: كن ذكيا يا ابن بروقة، الذكي هو من يستطيع اتخاذ القرار المناسب في اللحظة الطارئة، لم لا تحول حرجك وارتباكك إلى عيد؟ هذه مناسبة ثمينة لا تدعها تفلت منك، إن عرفت كيف تقتنصها ستزيدك شأنا ورفعة، هي إذن نفحة من أيام دهرك فتعرض لها، ازرع كلاما حسنا وثناء جميلا وإطراء ومديحا، وستجني دون شك رضا ومكافآت وترقيات، لتصبح من أصحاب اليمين المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
تذكر المثل الدارجي الذي يقول ما مفاده: "فم الإنسان إما أن يجلب له بقرة، وإما أن يجلب له حجرة"، فرمى الورقة خلفه حتى يظفر بالبقرة، ويجنب نفسه الرشق بالحجارة، وقرر أن يرتجل خطبة لتكون له ولمن يجلس أمامه من ذوي الشأن العلي والقدر الجلي عيدا وعرسا، فبسمل وحوقل وخاطب الجموع قائلا: أيها الناس أنصتوا رحمكم الله، واعلموا أن كل من التفت أو تبسم، أو كلم من بجانبه، أو حدث نفسه بحديث سوء أو طعن في كلام الخطيب يعتبر لا غيا(من اللغو)، "ومن لغا فلا جمعة له".
أيها الناس احمدوا الله كثيرا واشكروه على تسخيره لكم قيادة حكيمة رشيدة في مدينتكم هذه، هم الآن معكم في المسجد، جاؤوا ليؤدوا فريضة الجمعة بين ظهرانيكم بكل تواضع وإنكار للذات كأن لا فرق بينهم وبينكم، وهم يعرفون أن فيكم وسخين، وأن القمل والبراغيث تعشش في رؤوس وثياب كثير منكم، ولن تتورع عن الزحف فوق أجسامهم وملابسهم الطاهرة، كما يعلمون أن رائحة عطنكم ستفسد عليهم نشوة الاستمتاع بشم روائح عطورهم العالمية، ورغم ذلك تجشموا عناء مخالطتكم ، وصبروا على أذاكم احتسابا للأجر والثواب.
ألقى ابن بروقة نظرة خاطفة على ضيوفه العشرة، فاستبشر حينما رأى وجوههم ناضرة إلى شخصه ناظرة.
خلف الصف الأول امتقعت الوجوه، وتغيضت النفوس، وسمع لها شهيق وزفيربعدما نالت منها كلمـــــــــات
ابن بروقة، ووضعتها في الدرك الأسفل من الذل والمهانة، لكن الرجل عمي بصره وصم سمعه عن رؤية أو سماع أي شيء من هذا، لأن السمع والبصر والفؤاد أوقفوا على أصحاب الصف الأول الذين ملكوا قلبه وشغفوه حبا وهياما، فصار يرى ما بينه وبينهم عامر، وما دون ذلك خراب في خراب.
  تابع ابن بروقة كلامه قائلا: ضيوفنا الأشاوس، عملتم فأتقنتم، وكلفتم فأديتم الأمانة على أحسن وجه، ووضعت فيكم الثقة فكنتم عند حسن الظن، بل وفوق حسن الظن، وبهذه المناسبة أشكركم أصالة عن نفسي ونيابة عن كل سكان المدينة على فضائلكم التي نستطيع أن نعد منها، دون أن تكون لنا القدرة على عدها.
  أيها الناس ابعثوا برسائل الشكر والامتنان، وقدموا الهدايا العينية لسادتنا عرفانا بجميلهم حتى لا تكتبوا من الجاحدين، فيحق عليكم غضب الله يوم القيامة، واعلموا أنكم لو قدمتم أمثال جبل أحد ذهبا، ما أديتم ثمن ذرة واحدة من معروفهم، ألا هل بلغت؟ ألا فليبلغ الشاهد الغائب.
  ضيوفنا الكرام أنحني إجلالا لمقامكم العالي، وأبشركم أن تضحياتكم هذه لن تذهب سدى، ستجزون جنة عرضها السماوات والأرض، أجل أبشركم بالفردوس الأعلى، فهنيئا لكم بلوغكم درجة اليقين التي لا يصل إليها إلا الأتقياء الأصفياء أمثالكم، وأذكر كل لسان راودته نفس صاحبه أن يمتد إلى عرضكم بأنه سيشتعل نارا يوم القيامة. 
   أنهى ابن بروقة كلامه وصلى بالناس، ثم انصرف إلى منزله تاركا خلفه هرجا ومرجا، وأخذا وردا وصل حد قذفه بأ قدح الألفاظ ، دون أن يجد شفيعا أو نصيرا، إلا من نفر قليل، قال بعضهم: مايدرينا أن الرجل ليس خطيبنا الذي نعرفه كظلنا؟ ربما شبه لنا برجل آخر يحمل نفس ملامحه، وله نفس نبرته الصوتية.
  رد آخر: لا أعتقد ذلك على الإطلاق، الرجل هو هو بلحمه ودمه، فقط نبرته الصوتية تغيرت، وأنا أظن أنه خدر، كان يحرك شفتيه فقط دون أن يستطيع كلاما، وما كنا نسمعه صادر عن آلة تسجيل خبئت فوق المنبر.
تدخل ثالث قائلا: ليس في الأمر تشبيه أو مشابهة، الرجل هو خطيبنا ابن بروقة، وقد علمت من مصادر مطلعة قبل قليل أن الخطبة التي ألقاها علينا أمليت عليه، وطلب منه أن يحفظها عن ظهر قلب تحت وابل من التهديد والوعيد إن هو خالف بحذف أو زيادة أو تعديل.
 توالت ردود الأفعال على الخطيب وخطبته وتناسلت التعليقات، واحتدم النقاش حد اللجاج والخصام، أما الخطيب ابن بروقة فبمجرد ما عاد إلى منزله توصل برسالة تطلب منه الالتحاق فورا بمكتب السيد أبي سجة ، كبير العشرة الذين بشرهم بالجنة، فطار فرحا، سوف أكافأ على حسن صنيعي، لا بد أن القوم تدارسوا أمري، وفوضوا أبا سجة أمر مكافأتي، ستكون الهدية عظيمة بحجم بشارتي.
 ودع ابن بروقة زوجته وهو يمنيها ويمني نفسه بأحلى الأماني ، قالت له زوجته: إذا طلب منك أن تطلب شيئا، فاطلب منزلا فخما وسيارة.
 سأفعل عزيزتي، وأطلب كذلك أثاث البيت، لا حدود لطلباتي اليوم ، رد ابن بروقة، وهويرقص من شدة الفرح.
أمام مكتب أبي سجة وقف ينتظر المناداة عليه على أحر من الجمر، مرت الدقائق كما لوكانت ساعات، استعجل ساعة اللقاء الحاسم الذي لاشك أنه سيغير حياته، وسيدخله جنة الدنيا ونعيمها من بابهما الواسع.
 دعاه الحارس للدخول، فلما دلف لم ير بشرا ولا ابتساما كما توقع، وإنما بوده بنظرات شزراء تخترق كامل جسده، فتمعر وجهه، بدعه المشهد فقدم نفسه لسيده أبي سجة عسى أن يكون في الأمر سوء فهم: خديمكم خطيب الجمعة الذي تفضلتم بحضور خطبته قبل قليل.
 رد عليه السيد أبوسجة قائلا: لست في حاجة إلى هذا، نحن نعرفك، ونعرف أنك:
                           خطبت فكنت خطبا لا خطيبا////// أضيف إلى مصائبنا العظام
نزلت الكلمات كالصاعقة على مسمع ابن بروقة الذي تسمر في مكانه واجما من هول الصدمة، خمن أن في الأمر وشاية كاذبة تتغيا توريطه في مشكلة كبرى مع أسياده، خصوصا وأنه أصبح مرمى عيون الحساد الذين لم يستسيغوا ما أصبح يعيشه من نعيم، وما تعده الأيام من سؤدد ورفعة.
 أزال أبو سجة الشك باليقين حينما استطرد قائلا:ما سر تركيزك أثناء قراءتك في الصلاة على الآيات التي تتحدث عن المجرمين والمنافقين والفاسدين المستعلين في الأرض؟
أقسم بالله سيدي أنني اخترتها اعتباطا بدون خلفيات، والدليل هو أنني لا أتذكر الآن ما قرأت في صلاتي،
 سيدي لقد استنفرت كل قدراتي اللغوية والبلاغية وما ألوت لأرفعكم مقاما عليا، العبرة بما ذكرت في خطبتي، لقد صدرت البشارة، ولا يمكنني أن أتراجع عنها، أقول لكم سيدي ما قال الشاعر:
                         لا تحسبوا أن تدخلوا سقرا  ///////  فليس يدخل بعد الجنة نار.
لقد جئت شيئا إدا حينما خربقت ما تقدم بما جاء بعده، فأذهبت حسناتك بسيئات الاختيار،كان عليك  قراءة آيات التبشير بالجنة، لا آيات الهلاك والعذاب والوعيد ، ألم يدرسوك التناسب البلاغي أيها الأبله، أم أنك تريد أن تجعل نفسك في منزلة بين المنزلتين، فتقول لنا حينما يستثب الأمر وتخمد احتجاجات الرعاع: لقد نصرتكم حينما أذلكم الناس، وتقول لهم إذا آل إليهم الأمر:إنما كنت أخوض وألعب مستهزئا بهم، وأنني ذممتهم بما توهموه مدحا، متخذا مما قرأت به شاهدا على صدق لهجتك؟ لقد بشعنا بأسلوب تقيتك هذا.
كلا، والله ما خطر هذا ببالي سيدي.
لا وقت للأخذ والرد، اخرج من هنا مذموما مدحورا، وليكن في علمك أن ملفا ينتظرك في المحكمة بتهمة التجاسر على المقدسات والتآمر على الرموز.
أحنى الرجل رأسه ثم غادر المكتب وله أصيص، وحينما عاد إلى المنزل صاحت زوجته بمجرد ما سمعت طرقه للباب دون أن تراه: واطرباه، عاد زوجي في هذا اليوم الشامة بالدنيا ونعيمها، فرد عليها منكسرا: بل قولي: واترباه، فتح علينا باب النحس في هذا اليوم العبوس القمطرير، ثم زعق زعقة خرجت معها روحه إلى بارئها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق